المنهج العقلاني في التغيير يستند على قاعدة صلبة تمثل كل أطياف اللون السوري ممن تعرضوا لفترات طويلة من القهر والطغيان موافقاً لتوجه كل فئة من حيث أنه فكري أو اجتماعي أو اقتصادي.
فالاستبداد يتوجه إلى الفكر ليسيطر عليه, ان استطاع جفف منابعه تماماً وإلا قام بعملية تسميم المنابع لتحريف الأفكار وتسخيرها لخدمة المستبد بدلا من خدمة المجتمع.
أما اجتماعيا نجده يعتمد الأسلوب الفرعوني الشهير الذي علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً وطوائف من خلال إثارة نزعات التفرقة التي تقسم الوحدة التكوينية المتنوعة للنسيج الوطني إلى تكتلات متناحرة فيما بينها مما يسهل سيطرته عليها.
في حين أنه يسيطر على مقدرات الاقتصاد من خلال إيجاد تربة رخوة تكون بيئة مناسبة لتكاثر ديدان تقوم بامتصاص خيرات البلد تحت مسمى رجال أعمال لا يعدون كونهم سوى مدراء في مؤسسة النهب العامة التابعة للنظام تاركاً غالبية الشعب تقتات على الفتات.
إن توحيد جهد هذه الطبقات الثلاث يشكل الأرضية الراسخة لقوة الحقيقة في الثورة السورية, هو ذات المبدأ الذي اعتمده داعية اللاعنف الهندي المهاتما غاندي عندما رأى أن سلطة الحاكم تعتمد على موافقة الرعية، فالحاكم يصبح عاجزاً بدون النظام الإداري للدولة وبدون الجيش وبدون انصياع قطاعات مفتاحية من الشعب.
يجدر بنا أن ننوه إلى أن الوسائل العادلة غالباً ما تحقق نتائج عادلة، هذا ما نجده في كلام غاندي "الوسائل للنتائج كالبذرة للشجرة".
الداعمون للعمل اللاعنفي يحاجون بأن الأعمال التي تُعتمد لتحقيق التغيير تؤثر على المجتمع بشكل حتمي، فتصبغه وتُقولبه في شكلها وأسلوبها، ويجادل أنصار هذا الأسلوب بأن من غير المنطقي أساساً أن يُستخدم العنف لتحقيق مجتمع مسالم.
عندما يقول مارتن كنج أن " الكراهية تشّل الحياة والحب يطلقها, والكراهية تربك الحياة والحب يُنسّقها, والكراهية تُظلّم الحياة والحب يُنيرها " هو بذلك يؤسس لمذهبه في الكفاح السلمي الذي خاضه لنّيل الحقوق المغتصبة للأمريكيين من أصل أفريقي, وتحويلهم من أقنان إلى مواطنين لهم كل الحقوق وعليهم كامل الواجبات.
ظل كنج مؤمناً بفلسفة اللاعنف رغم كل ما تعرّض له من عنف كاد بسبه أن يفقد زوجته وأبنه, عندما ألقيت قنبلة على منزله, وحين وصل إلى البيت وجد جمعاً غاضباً من الأفارقة مسلحين على الاستعداد للانتقام, وأصبحت مونتجمري على حافة الانفجار من الغضب, ساعتها وقف كنج يخاطب الجمع الغاضب" دعو الذعر جانباً, ولا تفعلوا شيئاً يمليه عليكم شعور الذعر,إننا لا ندعو إلى العنف "
الحلم الأمريكي الذي تجسد في مسيرة كنج تحقق عندما فاز بارك أوباما بالانتخابات الرئاسة الأمريكية.
في الإسلام عندما نتأمل هذا الخطاب العلوي الرقيق (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ), نجد فيه دعوة صريحة للاعنف,المنهاج الذي أسس له إسلاميا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في كفاحه ضد القرشيين طيلة 13 سنة من دعوته, ففي الوقت الذي كان أصحابه يُلّقون على رمضاء مكة في صيفها الحار, كان يحضهم على الصبر, وعندما لاقى آل ياسر من التنكيل مالا يستطيعه بشر, بشرهم الرسول بالجنة ولم يسمح لهم بحمل السلاح.
وقد تمثل ذلك النهج جلياً في مسلك تيارات الإسلام الوسطي المعاصر مع الحكام، فرغم كل أساليب التعذيب التي تعرضت لها، حاولت دائماً الحفاظ على خطها السلمي مستفيدة من تجربة تراكمية هائلة من الصراع مع السلطة الديكتاتورية تخللتها بعض الممارسات العُنفّية المنفلتة والتي غالباً ما كانت تتم باجتهادات شخصية نتيجة للعنف الهمجي الذي كانت تتعامل به الأجهزة الأمنية مع شباب الحركة الإسلامية.
في كتابه فقه الجهاد يقول القرضاوي" قوة الجماهير الشعبية العارمة والتي إذا تحركت لايستطيع أحد أن يواجهها أو يصد مسيرتها, لأنها كموج البحر الهادر, والسيل العرم لايقف أمامه شيء, حتى القوات المسلحة نفسها لأنها في النهاية جزء منها وهذه الجماهير ليسوا إلا أهاليهم وآباهم وأبناهم وأخوانهم ".
جودت سعيد الذي اعتنق مذهب ابن آدم في القصة التي ذكرها القرآن ) لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) كانت هي الفكرة التي كونت فلسفته في التغيير السلمي،إذ يراه أسلم الطرق في الانتقال من سلطة الفرد الديكتاتورية إلى سلطة الشعب الديمقراطية،فيقول :" عدم ردّي على الاعتداء سيوفر نصف القتلى لأنني حين أرد عليه أقتله ويقتلني, وبهذا يتضاعف عدد القتلى, أما إن امتنعت عن الرد فإن نصف القتلى سينجو من اللحظة الأولى ثم إن الآخرين لن يقتلوا منّا إلا جزءً يسيراً عما كانوا سيقتلونه في الحرب ".
على النقيض من ذلك يُعتبر كارل ماركس داعية عنف ومؤسس لمذهب الكفاح المسلح للقضاء على سلطة الدولة التي كانت زائدة طفيلية في نظره, وفي كتابه " كومونة فرنسا كتاب الحرب الأهلية الفرنسية " حلل ماركس التجربة الفرنسية وأوجه القصور والتعارض فيما بينها وبين نظريته في جانبها السياسي .. وحث على أنه من الضرورة القصوى للعمال الأخذ بزمام الحكم والوصول إلى قمة المراتب السياسية بتمرد مسلح, وبعدها العمل على تدمير الأسس التي تقوم عليها الطبقة الرأسمالية والعمل على حدوث التحول الثوري الذي سيشمل المناصب السياسية , عندها يقود هذا التحول إلى ما يسمى عند ماركس ديكتاتورية البروليتاريا.
عندما كانت الثورة الروسية تسير على سكة الإضرابات التي شملت الخدمات العامة_ الصحف ،عمال البرق و البريد وموظفي البنوك وعمال المخابز وسيارات النقل, كانت لا تزال سلمية اتباعا لنهج القس جورجي جالون، في تلك الاثناء كتب لينيين لأعوانه من جنيف " إننا نتكلم من ستة أشهر عن القنابل ولكنني لا اجد واحدة منها انفجرت "
إذاً لينين الذي نقل نظريات ماركس إلى الواقع الفعلي كان هو المسؤل عن تحول الثورة الروسية الى ثورة بمنتهى العنف.
ومن خلال تتبع نتائج المسلكين العنفي واللاعنفي في مسيرة حركات التحرر عبر الزمن يظهر لنا جلياً:
- أن طريق التغيير السلمي الحضاري غالباً ما يفرز أنظمة ديمقراطية حقيقة تكون السلطة فيها مستمدة من إرادة شعبية حرة, بينما على الجانب الآخر نجد دعاة حمل السلاح بمجرد وصولهم للحكم تتحول السلطة إلى منهج ديكتاتوري استقصائي, مستمراً بطريق العنف في التعامل مع المخالفين سياسياً والذين كانوا حتى أمد قريب رفقاء الدرب.
- وفي حين أن الطريق السلمي يحافظ على القوة العسكرية للبلد نجد أن العنف يحطم هذه القوة ويستنزفها والتي هي في الأخير ملك للشعب.
- السلمية تعتمد بالأساس على الكتلة الشعبية الضخمة في التغيير، لذا فهي تعبر عن تطلعات الشعب بدون إرتهان الإردة الوطنية لقوى خارجية، والتي غالباً ما تمتلك أجندة لا تخدم المصلحة الوطنية, في حين أن العنف غالباً ما يتطلب تدخل خارجي مباشر, يكبل الدولة بقيود تصادر حرية القرار الوطني.
- الجانب الأخطر هو عدد القتلى، ففي حين أن المظاهرت السلمية تحرج النظام وتجعله أكثر حذراً في طريقة القمع التي إن ارتفعت، ستفقده الكثير من مناصريه وستسحب الشرعية الدولية منه، لتجعله في عزلة داخلية وخارجية، الأمر الذي يزعزع أركان نظامه ويجعله يتهاوى من خلال انسحاب الكثير من دعائم الحكم لصالح الثوار,لكننا نجد أن حمل السلاح يسبب اندلاع حرب أهلية تحرق الأخضر واليابس وتزهق الكثير من الأرواح من الجانبين والذين هم أخوة في الوطن وأن اختلفوا.
لذا فثورة التغيير الحضاري السلمي في سوريا والتي ما تزال ملتزمة بخطها اللاعنفي رغم كل محاولات النظام الفاشلة حرفها عن طريقها السلمي، يجب أن تظل ملتزمة بهذا الخط وفاءً لدماء الشهداء ودموع الأمهات حتى تحرير البلد من عفن الاستبداد وتقديم المتسببين لعدالة طالما حرمونا منها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق